لسبب ما: قررت الصحف الأمريكية أن تبدأ نغمة جديدة في حديثها مع مصر.. نغمة لا تهاجم.. ولا تعاند.. ولا تستفز الإدارة المصرية.. بل ربما كانت حتي علي هواها، ومزاجها.. وربما خططها.
الله وحده أعلم بما في النوايا.. سواء كانت النوايا المصرية أو الأمريكية.. لكننا نملك علي الأقل، أن نحاول قراءة ما بين سطور الإعلام الأمريكي الذي يعبر حتماً عن جزء من مصالح شعبه، وإدارته.. لقد نشرت مجلة «هارفاردكريمشن» إحدي المجلات السياسية المهمة التي تصدر عن جامعة هارفارد العريقة. تحليلاً عنوانه «مصر مستقرة» كانت الفكرة الرئيسية فيه أن مصر، وهي إحدي الأوراق المهمة في عملية السلام، لابد أن يحكمها جمال مبارك من بعد أبيه، لو أرادت أن تتمتع بالاستقرار.
التحليل يحتاج لوقفة لعدة أسباب، أولها أننا اعتدنا علي هجوم الصحافة الأمريكية علي حكاية التوريث في مصر، وإصرارها علي أن تنتقل السلطة في مصر بانتخابات ديمقراطية، وثانيها أن كلمة «لابد» التي استخدمها تحليل المجلة الأمريكية كلمة تشير إلي أن تولي جمال مبارك السلطة في مصر، صار أمراً مهماً، ومؤثراً بالنسبة للسياسة الأمريكية، مما يعني أنه ربما يكون المقال، هو بداية تغيير في موقف السياسة الأمريكية، من مسألة انتقال السلطة في مصر.
يبدأ مقال المجلة الأمريكية الذي كتبته «شاي برونشتاين» بإظهار «معني» مصر في السياسة الأمريكية، فهي لاعب رئيسي في حسبة الصراع في الشرق الأوسط. وحجر قوي في مسألة المفاوضات بين الإسرائيليين والفلسطينيين ما دامت تلعب دور الوسيط الرئيسي بينهما، وأضافت المجلة أن مصر دولة علمانية، وهذا أهم ما يميز حكمها، فهي حاليا دولة يمكن وصفها بأنها علمانية، ديمقراطية، غربية الهوي، علي الرغم من أنها ليست دولة ديمقراطية علي الطريقة الغربية، كما أنها صارت الآن هي الثقل الرئيسي الذي تعتمد عليه الولايات المتحدة لمواجهة إيران بعد سقوط العراق، القوة العلمانية التي كانت يوما ما، حليفة للولايات المتحدة.
وبذلك، يصبح وضع الولايات المتحدة حرجا لو سقطت مصر في أي ظرف من الظروف تحت حكم إسلامي أصولي مثل حكم الإخوان المسلمين والذين وصفتهم المجلة بأنهم «يشجعون العنف ويريدون فرض رؤيتهم الأصولية للشريعة الإسلامية» مما سيخلق مزيداً من العدائية في أجواء الشرق الأوسط، ويضع الولايات المتحدة والعالم كله في مأزق من بعدها.
وتري المجلة أن مصر ستصل قريباً إلي مفترق طرق، تحدد فيه ما إذا كانت ستصبح دولة علمانية أم إسلامية بعد الرئيس مبارك، من ناحية أخري فإن جمال مبارك هو أحد أبرز المرشحين لخلافته، علي الرغم من معارضة الكثيرين ومنهم الأصوليون، لتوليه السلطة، وفي نظر المجلة، فإن ميل جمال مبارك إلي الغرب، وإلي العلمانية في التفكير، هو السبب الرئيسي لمعارضة الإخوان لحكمه، إضافة إلي الانتقادات الحادة التي يوجهها الناس لكل من يفكر في أن يتم توريث السلطة في مصر من الأب إلي ابنه.
ولكن، علي الرغم من ذلك كله، قررت المجلة أن جمال مبارك «لابد» أن يتولي السلطة فور أن يتركها والده، إذا أراد المصريون أن يحافظوا علي بلادهم مستقرة وعلمانية، وربما حتي دولة ديمقراطية حقيقية تحب السلام، وتصادق الغرب.
كان هذا هو العامل الرئيسي الذي يدعم ترشيح جمال مبارك للسلطة في نظر المجلة، لأنها تصفه بأنه، من ناحية أخري، ليس أفضل الموجود ولا حتي خير من يتم ترشيحه لمنصب الرئيس في مصر، وواجه اتهامات دائمة بأنه يستمد السلطة والقوة في مصر من وجود أبيه وليس عن استحقاق ولا جدارة ولا مؤهلات شخصية، لكنه صار يلعب دوراً فعالاً في الحزب الوطني، وعلي الرغم من انكاره المستمر لرغبته في تولي الحكم، فإنه التقي مؤخراً بالرئيس بوش ليتلقي -كما يري كثيرون- «ختم الموافقة» الأمريكي علي توليه الرئاسة.
وتقول المجلة إنه بغض النظر عما إذا كان جمال مبارك يستحق الرئاسة أم لا، فإنه يحظي بدعم عائلي وسياسي وخارجي يؤهله لأن تتم انتقال السلطة إليه بسلام.
وعلي الرغم من أن الرئيس مبارك يحظي بالتأييد العام في مصر، فإن الإخوان المسلمين يمثلون تهديداً حقيقياً علي سلطته إذا تم إجراء انتخابات مفتوحة كما تري المجلة. فهم يديرون حملاتهم علي خلفية شعار أن «الإسلام هو الحل»، وهو شعار لا يثير المتاعب في حد ذاته لأن الإسلام يحمل العديد من القيم والتعاملات الإيجابية، لكن ما يثير القلق، هو الأساليب الملتوية التي يستخدمها الإخوان، فهم يتظاهرون بحب السلام، ويؤيدون الهجمات الانتحارية في نفس الوقت، ويتلاعبون بكل الأطراف في وقت واحد، مما يعني أنهم لا يريدون الاستقرار ولا السلام، وإنما فرض الشريعة الإسلامية في أشد صورها تطرفاً.
والمثير أن المجلة تؤكد أن أي انتخابات حرة «حقيقية» في مصر، ستضر مصر كدولة، لذلك، فلو لم يصل جمال مبارك إلي السلطة بقوي الحراك السياسي الموجودة في مصر، فإن الإخوان قد يكتسبون مزيداً من الدعم الشعبي يؤهلهم لأن يربحوا الانتخابات، إذا ما رأي بعض المصريين أن يصوتوا للإخوان كرهاً فقط في توريث السلطة، وربما يصوت المصريون للإخوان كنوع من رد الفعل الرافض للسلطة بنفس المنطق الذي صوت به الفلسطينيون لحركة حماس، ثم ندموا علي قرارهم بعدها، واكتشفوا أن ضرره أكبر بكثير من نفعه.
لذلك، فربما يرسل المصريون رسالة سياسية إلي نظام مبارك لو صوتوا للإخوان، لكنهم سيواجهون في المقابل صراعاً داخلياً قد يصل لدرجة الاقتتال بين الإخوان وبين القوي السياسية والعسكرية القائمة بالفعل، والتي لن تتخلي عن سلطتها بسهولة أبداً.
والحل الأمثل لعملية انتقال السلطة في مصر -من وجهة نظر المجلة- هو ان يتم ذلك الانتقال ببطء، وبعملية إصلاحية محسوبة، وليس بانقلاب مفاجئ، والسبيل الوحيد لتحقيق ذلك الهدف مع الحفاظ علي استقرار البلاد. هو أن يبقي الحال علي ما هو عليه، بمعني أن تظل السلطة القائمة كما هي دون تغيير، بينما تحافظ علي آليات الحركة والتغيير والتصعيد فيها.
وانتهت المجلة إلي القول بأنه لو أرادت أمريكا أن تساعد مصر في تصعيد جمال مبارك إلي السلطة فيها، فلابد من أن تخفف الضغط علي مصر لفرض الديمقراطية والإصلاح فيها، فمن مصلحة مصر والولايات المتحدة، والمنطقة بأسرها أن تتم الانتخابات الرئاسية القادمة تحت إشراف وتوجيه يحافظ علي الاستقرار القائم في مصر.
إلي هنا انتهي كلام المجلة.. وبقي أن نسمع اسم كاتبة المقال، بين الأسماء المرشحة لرئاسة تحرير إحدي الصحف القومية في مصر!